المناصفة كآلية لمواجهة طغيان الأغلبية: نحو دفاع عقلاني عن حرية الفرد

النظر في موضوع المناصفة يبدأ من طرح سؤال جوهري: أين تنتهي سلطة المجتمع لتبدأ حرية الفرد؟
إن ميل الفرد إلى الانتماء للجماعة ميلٌ غريزي، غير أن امتداد هذه الطبيعة عبر الزمن يؤدي إلى نشوء وضعيات قانونية وأخلاقية. ومن هنا تبرز الإشكالية: كيف يمكن إحداث توافق بين ما هو طبيعي (الغريزة) وما هو ثقافي (القانون والأخلاق)؟

إذا ما تأملنا في الشروط التاريخية للفكر الحديث، نجد أن هذه الإشكالية طُرحت بحدة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في الغرب، حيث ارتبط انخراط الأغلبية في الحياة السياسية بظهور الديمقراطية. غير أن هذه الأخيرة، رغم ما تحمله من وعود بالمساواة، كثيرًا ما تتحول إلى مساواة وهمية.
فموافقة الأغلبية تُخفي خطرًا لا يبدو جليًا دائمًا، يتمثل في طغيان الأغلبية على حساب الأقلية. فقد تبدو الحكومات – على سبيل المثال – وكأنها تجسد الإرادة الشعبية، غير أن هذه “الإرادة” قد تتحول إلى أداة لإهانة الحرية الفردية.
الأفكار الجماعية التي تتقاسمها الجماعة في المجال العمومي تُصبح سلطة مطلقة، تدافع عن سرديات تسكن وجدانها، دون أن تعبّر بالضرورة عن عقل نقدي حر ومستقيم.
في هذا السياق، تبدو مشكلات المجتمعات المعاصرة مشكلات أخلاقية في جوهرها.
فمثلًا، يُنظر إلى السكر في الحس المشترك باعتباره سلوكًا منحرفًا، مما يؤدي إلى إهانة الفرد إذا شوهد في حالة تخمر. ويُبرر المجتمع موقفه بأن مثل هذه السلوكيات – إلى جانب دعاوى المرأة باستقلال إرادتها – تمثل خطرًا على القيم الاجتماعية.
لكن هذه الادعاءات، وإن بدت مقدماتها منطقية، فإنها تنتهي إلى تقويض استقلالية الفرد، من خلال فرض قوانين تعاقبه أساسًا على اختلافه الفكري.
إن آليات السماح والعقاب لا تُحدَّد فقط من طرف القانون الوضعي، بل تتحكم فيها في المقام الأول سلطة الرأي العام. ومن هنا، فإن توافق مصالح الحكومة مع مصالح الشعب لا يعني بالضرورة تحقق الديمقراطية؛ بل قد يكون تعبيرًا عن ترسيخ سلطة الأغلبية، مما يُهدّد حرية الفرد وحقوقه.
فكيف يمكن، إذًا، أن نجيب واقعيًا عن أسئلة ذات طبيعة أخلاقية وصيغة قانونية-عقابية؟
إذا كان الفرد يؤدي واجباته كدفع الضرائب ولا يعتدي على حقوق الآخرين، فمن المنطقي أن يُسمح له بممارسة حريته الفردية.
ما لا يُدركه كثيرون هو أن التحولات الاجتماعية الكبرى تُستخدم في العمق لتشجيع السوق الاستهلاكية وزيادة الإنتاج. ومن ثم، يُقصى العقل الأخلاقي والحسابي حين تُنكر المتغيرات القيمية المرتبطة بهذه التحولات.
وبناءً على هذه المقدمات، يمكن تأويل المناصفة – واقعيًا – بأنها عملية جراحية ناجحة، تمثل برهانًا استدلاليًا على ديمقراطية الأقليات، ومحاولة لتفادي طغيان الأغلبية.
وبالتالي، يمكنني أن أستنتج أن ما يُعرف اليوم بـ “التفاهة” (la médiocratie) يمثل تجليًا حديثًا لسلطة العقاب، التي تُمارس باسم الإجماع الاجتماعي ولكن على حساب العقل والحرية الفردية.



