أخبارالرئيسيةفي الصميم

الدولة الوطنية والدولة القوية: التحديات الجيوستراتيجية بعد هجوم قطر 2025

بقلم: زهير أصدور**

يشكّل سؤال الخوف في عالم اليوم ـ هل مصدره ضعف الدولة الوطنية أم سطوة الدولة القوية المتحكّمة في النظام الدولي ـ أحد المحاور الجوهرية في تحليل العلاقات الدولية.

فبينما تُجسّد الدولة الوطنية الإطار السيادي لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية، تبرز الدولة القوية كفاعل يتجاوز الحدود، قادر على فرض إرادته بواسطة أدوات عسكرية واقتصادية وتكنولوجية ودبلوماسية متشابكة.

هذا السؤال لم يعد مجرد إطار نظري، بل أضحى إشكالية عملية بعد سلسلة أحداث مفصلية، أبرزها الهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة في شتنبر 2025، الذي استهدف مقرًا قياديًا لحركة حماس أثناء مفاوضات برعاية قطرية وأمريكية، في حادثة غير مسبوقة كسرت القواعد الضمنية للعمل الدبلوماسي وفتحت نقاشًا واسعًا حول حدود السيادة ومكانة الدولة الوطنية في النظام الدولي.

تعد هذه الحالة نموذجًا مكثفًا لتقاطع ثلاث قضايا مركزية: أمن الدولة الوطنية، أدوار الوساطة الإقليمية، وحدود القوة الدولية. التحليل الجيواستراتيجي لهذه الوقائع يستند إلى فهم أن الدولة الوطنية لم تعد مجرد كيان حامي للحدود، بل هي مشروع استراتيجي يخضع لتوازن دقيق بين الانفتاح والتحالف وحماية القرار الوطني، في ظل نظام دولي يشهد تفوقًا تكنولوجيًا وعسكريًا متزايدًا.

لقد نشأ مفهوم الدولة الوطنية الحديثة مع معاهدة وستفاليا سنة 1648، التي أرست مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ومع مرور الزمن، أضعفت التدخلات الأجنبية والحروب والهجمات العابرة للحدود هذا المفهوم، لتصبح السيادة نسبية ومرنة، تتطلب أدوات حماية متنوعة. أما الدولة القوية، فهي ليست مقتصرة على التفوق العسكري التقليدي، بل تشمل القدرة على مزج القوة الصلبة بالناعمة والذكية، بما يتيح النفوذ الاستراتيجي حتى دون تدخل مباشر. في هذا الإطار، تصبح السيادة اليوم مشروعًا ديناميكيًا يخضع لتحديات متعددة الأبعاد: التفوق التكنولوجي، التشابك الاقتصادي، وظهور فاعلين غير دوليين كمنافسين جدد.

الهجوم على الدوحة كشف هشاشة قدرات الدولة الوطنية على حماية أجوائها ومؤسساتها الحيوية، حتى في ظل تحالفات دولية معتبرة، كما أبرز أن الوساطة الدبلوماسية قد تتحول إلى نقطة ضعف إذا تعارضت مع مصالح القوى الكبرى.

استخدام القوة الجوية والاستخباراتية المتقدمة أثبت أن القدرة على الردع التقليدي قد لا تكفي، وأن الدول الصغيرة والمتوسطة مطالبة بتطوير قدرات دفاعية واستخباراتية متكاملة. انعكاسات الهجوم لم تقتصر على قطر وحدها، بل امتدت إلى التوازنات الإقليمية والدولية، ما يؤكد أن الأمن الوطني أصبح مرتبطًا بمعادلات الجغرافيا السياسية والاقتصادية على نطاق واسع.مقارنة بهذه الحالة، يوضح الهجوم الروسي على أوكرانيا مدى هشاشة الدول الوطنية في مواجهة القوى الكبرى، رغم امتلاكها جيوشًا منظمة وتحالفات غربية.

أما تجارب سوريا والعراق، فقد أبرزت أثر ضعف المؤسسات ووجود تدخلات متعددة الأطراف على قدرة الدولة الوطنية على حماية سيادتها. وعلى نطاق أوسع، تشير التجارب في المغرب العربي والقرن الإفريقي إلى أن الدول المتوسطة والصغيرة تواجه اختبارات مستمرة لحماية حدودها وأمنها الداخلي من نفوذ القوى الإقليمية الكبرى، ما يعزز الحاجة إلى تحالفات استراتيجية مرنة وأدوات ردع ذكي.

استنادًا إلى هذه المقارنات، يمكن تصور ثلاثة مسارات محتملة لتطور الدولة الوطنية في المستقبل: مسار الردع الجماعي الذي يعتمد على تحالفات وإجراءات دفاعية مشتركة للحد من اختراق السيادة، ومسار الاعتماد على القوى الكبرى لتأمين حماية محدودة على حساب الاستقلال الاستراتيجي، ومسار هشاشة السيادة الذي يؤدي إلى تآكل القدرة الوطنية على حماية العواصم والمؤسسات الحيوية.

كما يمكن تصور سيناريوهات هجينة تجمع بين هذه المسارات وفق مزيج من التحالفات الإقليمية، والمظلة الكبرى، وتطوير قدرات الردع المحلية.

بناءً على هذا التحليل، تبرز مجموعة من التوصيات الاستراتيجية: تعزيز القدرات الدفاعية والاستخباراتية، بناء تحالفات استراتيجية متوازنة ومتعددة الأقطاب، توظيف القانون الدولي والدبلوماسية الوقائية لحماية السيادة، تطوير مفهوم الأمن المرن الذي يشمل الأمن السيبراني والطاقة والغذاء، وإعادة النظر في أدوار الوساطة لتجنب التعرض للاختراق.

في الختام، تؤكد الحالة القطرية وغيرها من الأمثلة العالمية أن الخوف في عالم اليوم لم يعد مرتبطًا فقط بضعف الدولة الوطنية، بل ينبع من التفاعل المعقد بين الدولة الوطنية والقوى الكبرى. السيادة أصبحت مشروعًا ديناميكيًا يتطلب استراتيجية شاملة ومرنة، والقدرة على الموازنة بين الانفتاح والتحالف وحماية القرار الوطني أصبحت محورًا حاسمًا لبقاء الدول الصغيرة والمتوسطة في نظام دولي مضطرب.

*عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button